محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني
المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠
ومنهم الشيخ جمال الدين يوسف ، إمام الجامع ، ومن هو للخيرات جامع ، له لسان فصيح ، وبيان صحيح وطريق مليح ونفع ، له كلمات لطيفة ، وإشارات طريفة ، وعنده تحقيق وتدقيق ، ومنافسة لأهل الطريق ، يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ولو كان على رأسه السّيوف ، كثير التّلاوة للقرآن ، حسن المواساة للإخوان.
ومنهم الشيخ شمس الدين ، بركة المسلمين واللطف والدين ، أحد الفقهاء والصّوفيّة ، إمام المدرسة السّيفيّة ، فضائله مشهورة ، وأعماله مشكورة ، ولطفه موصوف ، وطريقه الحسن معروف صحب الشيخ صفي الدين ، فخرج به حتّى صار من المفلحين ، ولزمه طول حياته ، واستقرّ على وظائفه بعد مماته ، وأحيى المدرسة بنفسه وبأولاده ، وانقطع محصّلا لزيادة الذي ينفعه في معاده ، فليله ونهاره في تلاوة القرآن ، وطريقه نفع الإخوان ، فشكر الله مسعاه ، ونفع به وأبقاه.
ومنهم الأخ في الله ، الشّفوق والمحبّ الصّدوق ، والنّطق المستقيم ، والكشف الظّاهر ، غريب المقال ، ظاهر الحال ، سخيّ اليد ، شريف النفس ، ليس له ثقلة على أحد ، ولا يرتبط لأحد ، تألف بي بعد نفوره ، وأقام عندي لعدم اعتراضي عليه في جميع أموره ، يعطي ولا يأخذ ، ويخدم ولا يخدم ، كان في أوّل أمره مولها بلطف وظرف ، يرى في قوّة الشتاء ، إذا تراكم الثّلج وأطبق بقميص واحد ممزق ، ولو وافق في لبس ما يدانيه لتنازع أصحابه وتساهموا فيه ، ولقد مسكوه مرة بقيساريّة التّجّار ، وربّما غلقوا الأبواب حتّى ألبسوه ثوبا جديدا عمله له بعض الأصحاب ، وكان أول صحبتي معه أنّه كان يحضر معي في دروسي ، فإذا فرغنا من التّدريس وضع من كمّه في الحلقة تمرا ولوزا ونحوه ، من مأكل لطيف نفيس ، ودام ذلك مدّة ، فأخذت به أنسا ، وتأكّدت الصّحبة ، فلمّا كان بعض الأيام أخذ منّا المقر الرّكني أمير عمر الحمام ، فحصل وجعه ، فجاءني وقال : مرض أمير عمر وولده ولا يتعافيا حتّى
يرد الحمام إليكم فهل عندكم به أوراق؟ فقلت : نعم ، فقال : روح إلى زيارته وأعطه الورق يقرأه ، فقرأه فقلت كما قال ، فأثر أثرا عظيما ، وفي الحال رد الحمام ، وبالغ في الإكرام ، وقعد في الحال ، وقال هذا المرسوم بخط والدي ، ولن أخالفه ، وادخل إلى عيادة ولدي ، فذهبت فدعوت وبكيت ، وقد حصل ببركة الشيخ أحمد ما طلبت ورجوت ، ثمّ قبل موت القاضي الذي كان قبلي بيسير ، شرع يبعث ويقول بحضرة الكبير والصغير : أنت القاضي عن قريب ، فأبدي له كراهة هذا القول العجيب ، فيقول وأنا أبشرك ، الفقراء قالوا ذلك ، فأقول بيني وبينه : هذا الأمر يبلغ القاضي ، ويشق عليه ، ثمّ جاء في بعض الأيام ، وقال : القاضي مرض ، فقم إلى زيارته ، ثمّ عد إلى الجامع ، فأذا صلّيت العصر فاذهب إليه ، فإن كان باقيا فزره ، وإن كان مات ، فصلّي عليه ، وأنت القاضي بعده ، ثمّ مضى لسبيله ، فكان الأمر كما ذكر ، ومضيت مع أخي القاضي أسعى ، فتوليت فيا ليتني مت قبل ذلك يا ليت.
ومن أعجب ما اتّفق لي معه ، أنّ شخصا ذهب يسعى في القضاء عوضي بذهب كثير جمعه ، وشاع أن شغله القضاء ، ورأيت كلّا من أصحابي قد ذهب ومضى إلّا أحمد ، فإنّه ملازم لا يأكل ولا يشرب ، وليس بصائم ، فلمّا كان بعض الليالي طرق الباب بإزعاج ، وقال : مات العفيف ، وراح المال ، فكان الأمر كما أخبر ، وغرق ذلك الرّجل في البحر ، ولم يزل تظهر له أحوال لا يمكن التعبير عنها ، وأقوال يتعجّب منها ، ورأيت بمنامي كأنّه في مرجة مونقة بالأشجار محدقة وهو يتبختر في مشيه وعن يمينه وعن شماله سباع يسعون بسعيه ، ورأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمنام ، فتقدّمت للسلام عليه ، وإذا بالشيخ أحمد قد سبقني إليه وسلّم عليه وعانقه ، وكأنّني أنظر إليه يطبطب عليه ، ويقبّل عنقه ، وفي الجملة فأحواله ظاهرة ، وأرجو كما انتفعت به في الدّنيا أن أنتفع به في الآخرة.
ومنهم صاحب الفراسات الصادقة ، والكرامات الخارقة الشيخ صالح الشّجري ، من سادات القوم وأكابرهم ، وممّن عرف بالصّدق بين أوائلهم وأواخرهم ، ركبت مرّة على البريد مع نائب صفد المقر الشّهابي ابن صبح ، فدخلنا إلى الشجرة قرية الشيخ صالح بعد مشقة لشدّة الحرّ ، فنزل العسكر بعضه ، وحصل لهم مشقة من العطش ، ولم يتجرّأ أحد من العسكر أن يطلب ماء من البلد ، فإنّه نودي أنّ من طلب رغيفا أو بيضة أو تينا يضرب ويحمل إليه ، فما استقرّ بي الحال إلّا والشيخ صالح قد جاء إلى عندي ، ولم يكن أحد أعلمه بي ، ومعه بطّيخ أخضر يحمله ، ومع الشيخ الولي سليم الشّجري جرّة ماء ، فسلّم وسأل وقال : لو رجعت من ها هنا استرحت فضحكت ، وقلت إن كان بعد عشرين يوما ، وإذا بالنائب قد دعاني ووجدته بالقرب منّي ، وقال : قد رأيت رجوعك مصلحة ، وأنا لا أبطىء أيضا ، ولكن الساعة تسافر فلي في ذلك ضرورة ، ثمّ جهز صحبتي جماعة من مماليكه الكتابيّة ، وقال : لا تمكّنهم من النّزول إلّا في حطّين ، فو الله لقد رجعت لساعتي ، والشيخ صالح والشيخ سليم عندي لم يرجعا ، فودّعاني وانصرفا فشكرتهما على ما أسلفا ، وقد كان رحمهالله من أكابر الصالحين ، وولده إبراهيم أيضا من الصالحين.
وأخبرني الشيخ خليل خادم أولاد الأنبياء بقرية الشّجرة ، أنّ الشيخ صالح كان بالقدس الشريف ، وأنّه وجده بين الظّهر العصر داخلا في أراضي الشجرة ، فقال له : سألتك بالله أن تخبرني من أين قمت اليوم ، فقال : لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم ، قمت من القدس الشريف ، ولكن لا تظهر ذلك إلّا بعد موتي ، فعاش بعد ذلك سبعة أيام.
ومنهم أخوه في الله وصاحبه الشيخ سليم ، صاحب المقام العظيم ، والرّضى والتّسليم ، كبير الشّأن عظيم القدر بين الإخوان ، سليم الصّدر ، طاهر اللسان ، عجيب الأمر ، ظاهر النّور ، دائم الفكر ، كثير الذّكر ،
راسخ في الصبر والشّكر ، شديد الخشية مع السّكون والرّياضة ، والحظ الزّائد من الورع ، وكان الشيخ فرج يقول : الشّيخ سليم سليم ، ثمّ زرته في هذه الأيام ، فوجدته كالقمر عند التّمام ، قد تضاعف نوره ، وترادف خيره ، وظهر لي منه فوق ما كنت أسمع عنه ، وهو باق إلى الآن قدوة لأهل الإيمان ، ثمّ دعاه مولاه إلى جنّاته ، فانفجعنا والله لوفاته.
ومنهم السيد الكبير المعمّر الخاشع اللبيب ، المنوّر ذو المهابة والإنابة ، المعروف بالدعوة المستجابة ، صاحب الإشارات والمعاني ، الشيخ محمد الترعاني ، من ذريّة الشيخ علي البكّاء وصاحب الكرامات التي تحكى ، والعظيم الفتوّة ، خير الإخوة ، أبقاه الله لنفع المسلمين ، فإنّه ينظر إلى الخلق بعين الرّحمة.
ومنهم الأخ الصّدوق والولد الشّفوق ، صاحب المناقب والمآثر ، وصدق اللسان والقلب ، فهو مليح الباطن والظّاهر ، سيّدي الشيخ عامر الطّبري ، ذو اللفظ الجوهري ، ومن هو من الوصومة قد بري ، من أجّل أصحاب سيّدي الشيخ فرج ، وأعظمهم وأحبهم وأكرمهم يعظّمه في غيبته وحضوره ، ويتولّى بنفسه جميع أموره ، وإذا جئنا إلى زيارته ، وحظينا بمشاهدته يقول : زرتم الشيخ عامر؟ فنقول : نعم ، فيقول : الحمد لله الذي وفّق ، ثم جاء يوما إلى عندي ، فوجدني غائبا بالدّرس ، فوضع متاعه بمقصورة الخطابة للمحبة والأنس ، فجئت فوجدت قد نشر بها شحما ودهنا ، فقلت : من فعل هذا؟ فقال : أنا ولو علمت بما أبشرك لنشرت معي لعظم السّرور والهنا ، ثمّ قال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمنامي من أقرب زمان ، فقلت : يا رسول الله ادع لفلان ، فقال : خطيب صفد العثماني؟ فقلت : نعم ، فقال : ذاك من أصحابنا ، فبكيت سرورا ، ورجوت نيل الأماني ، ثمّ أقبلت أنشر في الدّهن معه ، وقلت يا له من دهن ما أبركه وأنفعه ، وله كرامات وعبادات ودعوات مستجابات.
ومنهم الشيخ محمد المارني الطّبري ، أحد الأولياء المقرّبين ، وعباد الله الصالحين ، من أجّل أصحاب سيّدي الشيخ فرج ، كنّا نأتيه للزيارة من صفد ، صحبة جماعة من الأخيار ، فنجده في الطريق نتلاقى ، وله أحوال عجيبة روح بلا نفس ، ويقين بلا لبس ، ميت بين الأحياء ، وهو حي بين الأموات ، إن حضر في جمع صمت ، وإن خلي تضرّع ، مجمع على محبّته ، متّفق على جلالته.
ومنهم الشيخ سيدهم الرّومي ، أحد السادة المشهورين ، والأخيار المعروفين ، له طريقة وأي طريقة ، جمع فيها بين الشّريعة والحقيقة ، وكان ولده الشيخ داود من الصالحين المشهورين الورعين المتّبعين.
ومنهم الأوحد في الورى ، والسّيّد الذي زكا ، لطيف الذّات ، جميل الصّفات ، صاحب المكانة المكينة ، الشيخ أحمد خطيب البعينة.
ومنهم التّقي الخفي ، المحب الوفي ، الصّدوق القائم بالحقوق ، من له قديم أيادي ، الشيخ أبو بكر البغدادي [الملتزم] بطريقته إلى الممات.
ومنهم السّيّد الأفضل ، الإمام المفضّل ، الجامع الأكمل الأنور الأكحل ، البريء من العيب والمقت ، الشيخ أحمد خطيب كفرسبت ، من أجلاء أصحاب سيّدي الشيخ فرج ، وعلى طريقته مشى ، وإلى درجاته درج ، فهو بقيّة السّف ، وبركة الخلف.
ومنهم الشيخ نجدة الزّيني ، كان من السّادات ، وأرباب المجاهدات ، المعروفين في إقامة حدود الله ، واتباع سنّة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، صاحب حال وقال ، يعدّ من أعيان الرّجال.
ومنهم الكبير الشّأن ، قوي الإيمان ، المعدود من الأكابر والأعيان ، الشيخ علي بن رمضان ، خادم سيدي الشيخ فرج ، ومن أجلّ أصحابه ، وهو وصيّه على أولاده ، كان لا يصدر إلّا عن رأيه واجتهاده ، وله في الورع والتدقيق مقام بمثله يليق ، اقترض من نصراني بالفيّوم درهما ، ولم
يتمكن من وفائه لغيبته فكان يبكي على ذلك دائما ، ثمّ سافر خلفه ثلاثة أقاليم حتّى ظفر به ، وبرئت ذمّته ، بالدفع والتسليم ، وكان لطيفا سخيّا ، حليما حييا ، وله مجاهدات ، وأقاويل ودخول مع المشايخ في تيه بني إسرائيل.
ومنهم صاحب العمل المبرور ، والورع المشهور ، والفضل المذكور خطيب تعنك من المرج ، المعروف بالفقيه منصور ، أجلّ أصحاب سيّدي فرج ، بل من أقرانه ، قليل المثل في عصره وزمانه ، له معرفة وقدم في الورع ، اجتمعت به بجينين وصفد ، فوجدته هائلا كالأسد ، ويقال انّه من أهل الخطوة ، وهو معروف بإجابة الدعوة ، وكاشفني بأشياء غريبة ، واطّلعت له على أسرار عجيبة معه ، وحكى الجماعة أنّ الشيخ فرج تزوّج امرأة من أحضاض ذات جمال وشبيبة فقيل له : من يحضرها من النّساء ، ومن يصحبها من الرّجال الأقارب؟ فقال الشيخ : الفقيه منصور وحده (يقوم) باحضارها ، ثمّ جهّزه فأحضرها ، لوثوقه بدينه وورعه ، وعفّته وشرف نفسه.
ومن السّادات الأعلام ، وأكابر الأقوام سلطان الفقراء ، وخاتم الأولياء ، صاحب الجود والمكارم ، زين الدين عمر بن الصّارم ، قدوة العارفين ، وأمير المتصرّفين ، يبذل ولا يقبل ، ويقنع بما بيده ، مع البر والإيثار ، في الليل والنّهار ، عظيم الزّهد ، كثير العبادة ، ظاهر المهابة ، معروف بالإجابة ، بركة عصره ، ونادرة دهره ، سخيّ اليد ، طاهر اللسان ، يقظان القلب ، دائم الخلوة والفرار ، قد آثر الله على كلّ شيء ، استغنى عن الناس لقنعه ، وافتقروا إليه لنفعه ، فسبحان من الفضل بيده (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) (٣١). الآية ...
القسم الثاني :
المنسوبون إلى العلم والسّيادة
فمنهم الشيخ نجم الدين ، والد الشيخ كمال الدين خطيب صفد ورئيسها ، وعالمها ومظهر العلم فيها ، انتهت إليه الرّئاسة في بني الكمال ، وحاز من المحاسن ما يقصر عن وصفها المقال ، مولده في رجب سنة ثمان وخمسين وستمائة بكرك الشّوبك ، أيام التّاتار ، ثمّ توجه مع والده إلى صفد ، ونشأ بها ، وقرأ القرآن الكريم ، ثمّ رحل إلى مصر في طلب العلم الشريف ، فتفقه وأتقن علم الأصول على الشيخ شهاب الدين بن النّحّاس ، وحيد عصره ، وأتقن الكتابة بالأقلام المشهورة على الشيخ عماد الدين بن العفيف ، شيخ الكتابة في عصره ، وكان يحفظ القرآن والتّنبيه في الفقه ، والمعالم في الأصلين ، وألفية ابن معطي ، والجمل للزّجّاجي ، والجزليّة في علم النّحو ، والمقامات الحريرية ، والخطب النباتية ، ويحفظ العين ، والمنطق ، ومن الحماسه نحو ألفي بيت ، إلى غير ذلك من أشعار المغاربة ورسائلهم ، ومن أشعار غيرهم مثل : أبي تمّام ، والمتنبّي وغيرهما من الشّاميين ، والمصريين ، والمشارقة ، فحضر من مصر وقد حصّل ، واجتمع بالأطواد من علماء تلك البلاد ، ثمّ رحل إلى دمشق فلقي جماعة من أئمّة العلماء : كالشيخ رضي الدين ، والنّعمان فذاكرهما ، وأخذ عنهما ما أخذ من علم المنطق ، فحصل له التّفنّن في علم الشّريعة ، والعقلية ، والأدبيّة ، وأوتى قوّة عظيمة في البحث ، فكان حسن الصّمت فصيح اللسان ، وحيدا في الخطابة لم يكن في عصره ، على ما ذكر ، أخطب منه ، ولمّا قدم الأمير فارس الدين الألبكي إلى نيابة صفد اشتمل عليه وأحبّه ، فرتبه في وظيفة كتابة السّر بصفد ، ولم يكن قبله في هذه الوظيفة أحد ، بل عملت لأجله ، فباشرها مبسوط القلم واللسان مدّة نيابة المذكور ، فلمّا كانت نيابة سيف الدين كراي المنصوري باشر معه ، فاطّلع على علمه وضبطه وديانته ، فعظم عنده ، وألقى إليه مقاليد الأمور ، واعتمد
عليه في سائر الأحوال ، فلمّا فارق النّيابة وحضر بتخاص وكان الشيخ نجم الدين المذكور قد تخرّج به جماعة ، منهم إنسان بصفد يقال له زين الدين بن حلاوات ، فدخل ابن حلاوات في بتخاص من جهة الدنيا ، ورأى بتخاص شرف نفس الشيخ نجم الدين ، وعلوّ همّته وصلابة دينه ، وثقل عليه ، فلمّا أظهر له الوحشة ، فجافاه الشيخ نجم الدين ، وأظهر له نفس (الوحشة) فوقع بينهما ، فترك الشيخ نجم الدين الوظيفة ، وتوجّه إلى دمشق فتلقاه الجوكندار ، وأكرم مثواه ، وبالغ في الإحسان إليه ، ثمّ بلغ الخبر بولاية كراي المنصوري لنيابة الشام ، وسمع بالشيخ نجم الدين ، فأرسل إليه أن يحضر لملاقاته ، فلمّا باشر نيابة الشام ، ألقى إليه مقاليد الأمور بالشام ، وصار له في أيام كراي دولة ، لكنّه سلك طريق العفاف ، وعدم المزاحمة لأكابر الشام في وظائفهم ودنياهم ، وقنع بخطابة جامع جراح ونظر مسجد النارنج ، وتوقيت دست مع وكالة نائب الشام ، فحصل على السلام في جميع أحواله ، سيما عندما مسك كراي.
أخبرني والدي أنّهم كانوا بالبستان ، فجاء شخص من أكابر الشام يدخل عليه في شغل ، أحضر بقجة فيها صوف وسنجاب ، وذهب مائة دينار ، ولم يكن يملك تلك الليلة درهما واحدا ، فردّ ذلك عليه ووعده بقضاء شغله ، قال والدي : ثمّ التفت إليّ ، وقال : يا ولدي خذ خاتمي وارهنه على زيت فإنّه لا زيت في البيت ، وإلى الآن هم في الظلمة فتوقفت غضبا ممّا جرى ، فقال : ستحمد فعلي هذا فيما بعد ، وكان قد لقيه ذلك النهار بعض الأكابر وعاتبه ، وقال : أنت رجل فقير ، ولك أهل وأقارب ، وقد حصل لك دولة ففكّر في مصلحتهم ، وأقبل هدية أصحابك ، فشكر نصيحته ، ولم يغيّر طريقته ، ثمّ مسك كراي وأمسكوا أكابر أصحابه ، ولم يتعرّض أحد إلى الشيخ نجم الدين ، لحسن طريقته فيما تقدّم ، واستمرّ في وظائفه وأحسن الشّاميون إليه ولم يقدر أنه قبل لأحد هدية من غير موقّع الرّحبة ، قدم له دواة ومرملة ، وقال :
أنت مضرور إلى ذلك ، وحلف عيه بالطّلاق لا بدّ من ذلك ، فأخذها عارية ، فلمّا مسك كراي جاء فشكا للنائب بأنه أخذ له دواة ومرملة وكان بعض الأكابر مطّلعا على الحال فحكى لنائب الشام فضرب موقع الرّحبة وعزله.
قال والدي : فقال : يا بني أبصر لو أخذنا الذهب والقماش كان صاحبه يطلبه أم لا ، وتحصل الفضيحة والتّعب فلذلك صبرت على رهن خاتمي وما ضرّنا ذلك ، ثمّ عزل بتخاص من صفد ، فاختار العود إليها على كتابة السرّ والخطابة بالجامع الظّاهري ، مكان والده ، واستقرّ أخوه برهان الدين إبراهيم الآتي ذكره في خطابة جامع جرّاح ، ثمّ وقع بينه وبين ابن حلاوات أمور يطول شرحها ، ثمّ أشرك بينهما في الوظيفتين ، وخطابة القلعة ، وطال الأمر ، فبلغ الأمير سيف الدين تنكز حين تولّى نيابة الشّام ذلك ، وكان الشيخ نجم الدين قد امتدحه بأبيات عظيمة أعجبته ، وذكر له فضله ودينه ، وورعه ، فطلبه وعرض عليه الإقامة بدمشق ، فقال : بل قصدي الخطابة ويأخذ ابن حلاوات كتابة السرّ ، فجمع بينهما بدمشق بين يديه وقال : أقرع بينكما ، فجعل كتابة السرّ بخمسمائة ، وجعل خطابة القلعة والمدينة بخمسمائة ، ثمّ خير الشيخ نجم الدين فاختار الخطابتين ، فقال لا بدّ من القرعة ، فاقرع بينهما ، فخرجت الخطابتين للشيخ نجم الدين ، فقال تنكز : الله أكبر قد جعله الله خطيبا ، فكتب إلى مصر أحضر له توقيعا بالخطابتين ، وهو عندي وأحضر أخاه برهان الدين لخطابة القلعة ، واستقرّ هو بخطابة المدينة ، ثمّ انقطع إلى الله عزوجل في طلب العلم الشريف اشتغالا واحتسابا ، حتّى وصل خبره شرق الأرض وغربها ، ولم يزل كذلك إلى أن مات ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، وسنّة خمس وستون ، مات أخوه فجاء حضر ختمة ، ثمّ قام منها ووصل إلى بيته فمات من ساعته ، ومن عجيب ما اتفق أنّ جدّنا الشيخ كمال
الدين ، وولده الشيخ برهان الدين مرضا بالفالج كل منهما أربع سنين وماتا به ، والشيخ نجم الدين وولده كمال الدين ماتا فجأة ، وأمّا الشيخ نجم الدين كما ذكرنا ، وأمّا الشيخ كمال الدين وولده فصلّى الصّبح بالناس ، ثمّ دخل إلى بيته فمات من ساعته ، وولدي وولد أخي علاء الدين ماتا بذات الجنب رحمة الله عليهم أجمعين ، ولمّا مات رثاه جماعة من أصحابه ، ومن تلاميذه ، ومن ألطفها نظم القاضي شمس الدين بن الحافظ ناظر الجيش أنشد على قبره يقول : شعر :
تجلّت له في سرّه ليلة القدر |
|
فنقطها بالرّوح من شدّة البشر |
تبدت له والليل قد فاق شطره |
|
فلم يستطع صبرا إلى مطلع الفجر |
إمام قضى في خدمة العلم عمره |
|
فاعتقه الرّحمن في آخر العمر |
يحث إلى جنّات عدن ركابه |
|
فسارت كأمثال البروق التي تسر |
فلا قلب إلّا وهو سار وراءه |
|
ولا عين إلّا كالعيون التي تجر |
ولم ينشب بابنه بعده بكت عيون |
|
المعالي فقده أبد الدّهر |
فأكرم به نجما أضاءت علومه |
|
وكان هدى للنّاس في البرّ والبحر |
لئن أوحشت من مجالسه أنسه |
|
ومنبره فالأنس قد حلّ في القبر |
على أنّه لو كان في الموت حيلة |
|
تحيلتها من حيث أدري ولم أدر |
ولكنّني في العجز عن ردّ ما جرت |
|
عليه به الأقدار في أوسع القدر |
ورآه صاحبه القاضي شهاب الدين الوكيل في منامه على هيئة حسنة ، فقال له : ما فعل الله بك؟ فقال : أحضرني بين يديه وقال لي : يا شيخ ما أنت عندنا لا بقال ولا بزّاز ، بل أنت عندنا من العلماء ، ثمّ قال لي : ادخل الجنّة ، فدخلتها.
وفي الجملة ففضائله كثيرة ، ومآثره غزيرة ، وله نظم بديع رائق يخال في الفصاحة في الأشياء من شعر العرب العرباء ، فمن قصيدة لطيفة المباني ، غزيرة المعاني أوّلها يقول : شعر :
روت حديث الهوى عنكم نسيمات |
|
أهدت شذا فيه للأرواح راحات |
حيت فأحيت بقايا أنفس تلفت |
|
وجدا فيا حبّذا تلك التّحيّات |
وهي قصيدة مطوّلة ، امتدح بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ومن قصيدة أخرى مطوّلة منها هذه :
رفقت بدمعك المتدفّق |
|
لمّا تألّق بارق الأبرق |
ومن قصيدة أخرى في مدح رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
في البرق لمعت حسن من ثناياك |
|
وفي الغمام صفات من معناك |
وفي معنى نسيم الصّبا معنى كلفت به |
|
لمّ تحمّل نشر روياك |
في غصون النّقا إذ ملن من طرب |
|
سر سرى نحوها من لطف معناك |
هي قصيدة مطوّلة ، ومن قصيدة أيضا مطوّلة كتبها إلى المقر السّيفي تنكز نائب الشام ، حين عوده من الأبواب الشريفة أوّلها يقول : شعر :
بلج الحق لمّا أن أضاء لنا |
|
وميض سيف تبدّا منه أي سنا |
ومن قصيدة مطوّلة كتبها إلى القاضي محي الدين ابن فضل الله ، رحمهالله تعالى ، وهي هذه :
وردة صحيفة أي فضل باهر |
|
محفوفة بمآثر ومفاخر |
وبدائع زهريّة وطلائع نهريّة |
|
حيث ينشر عاطر |
عوارف علويّة ومعارف علويّة |
|
ومشاعر ومظاهر |
ولوامع قدسيّة وطوالع شمسيّة |
|
وموارد ومصادر |
فأمد نور الشّمس نير فضلها |
|
حتّى تبلج صبحها للسّائر |
جادت سحائبه بأغزر وابل |
|
متدفّق من لجّ بحر زاخر |
وردت فاذكرت العذيب وبارق |
|
ولياليا سلفت بسفحي حاجر |
مع فتية مثل البدور كوامل |
|
كم أشرقت أنوارهم بضمائر |
فلكم أناروا محفلا بفضائل |
|
ولكم أحازوا من تعتب حائر |
أعني كراما كاتبين توارثوا |
|
رتب المعالي كابرا عن كابر |
من قصيدة يرثي بها صاحبه قاضي القضاة نجم الدين بن صرصرى :
هوى النّجم فانهلّت عيون الغائم |
|
وناحت على الأغصان ورق الحمائم |
وعز عز الدين من بعد أحمد |
|
وأمسى غريبا ماله من عواصم |
وقست قلوب يالمعالي وأصبحت |
|
كأنّ عليها الحزن ضربة لازم |
ولو لا خوف التّطويل لأوردت هذه القصائد من أوّلها إلى آخرها ، ولكنّني نبّهت عليها وأشرت إليها ليطلبها من ديوانه من رغب فيها ، ولو استقصيت أحواله لطال المقال ، وله تلامذة وأصحاب ، يطول ذكرهم بهذا الكتاب ، لكن لا بدّ بذكر مشاهيرهم.
فمنهم شيخ الإسلام ، وعلم الأعلام ، إمام عصره ، الشيخ فخر الدين المصري ، كان أبوه كاتب لنائب صفد ، فغاب واستنابه ، فرأى أمورا لا تعجبه ، فانقطع عن المباشرة ، فطلبه وتهدّده ، وكان صغير السّنّ فهمّ بالهرب ، فقدم والده وعاتبه ، وقال : يا بني وما الذي جرى لك فإنّ الكتّاب يعاقبون ولا يتأثّرون ، فقال : إن باشرت عوقبت ، ثمّ خرج من ساعته ، وجاء إلى حلقة الشيخ نجم الدين فلزمه ، فوجد فيه مخايل النّجابة ، فأكرمه فاشتغل عنده حتّى برع ، وكان قد تزرع ، ثمّ طاف
البلاد ، واجتمع بالأطواد ، وبالغ في الاجتهاد حتّى صار من الأطواد ، واجتمعت به في المدينة الشريفة ، وسألته عن مسائل لطيفة ، فمرّ في الجواب كمرّ السّحاب ، كان من قوّة اجتهاده في الاشتغال ، يسهر الليل كلّه ، وإن طال ، فإذا حصل له ملال قام ومشى وقال :
يا ليل طل أو لا تطل |
|
لا بدّ لي أن أسهرك |
مذ صار عندي قمري |
|
فلست أرعى قمرك |
وكان في الحفظ (من) الأبرار ، حفظ الحاجبية في سبعة أيام ، وكان إذا ذكر الدّرس ألحقه في جزء فيه (١) الكلام ، ولو أردنا حصر صفاته وذكر مصنّفاته وتلامذته وأصحابه ، والذي أنشأ من أهل العلم وطلّابه لأدّى ذلك إلى الاسهاب المخرج عن مقصود وجودي.
ومنهم أحد المشايخ الأئمّة الأعلام الشيخ بهاء الدين ابن الإمام المعروف المشهد بدمشق المحروسة ، أخذ عن الشيخ نجم الدين ، وهو من أجلّ أصحابه المتّقين والشيوخ العالمين ، ثمّ برع وفاق ورحل إلى الآفاق وأخذ عن الأطواد ثمّ قطن بدمشق للاجتهاد فصار من مشايخها المشهورين في حياة الأئمّة المذكورين وتولى نظر الحسبة الشريفة بالشام وغيرها من الوظائف العظام ، وله تعاليق ومصنّفات وتلاميذ وأصحاب.
ومنهم صاحب المواهب ، كثير المناقب ، الجامع للغرائب ، الشيخ شمس الدين بن محمد ابن أبي طالب ، المعروف بشيخ الرّبوة ، كان من أصحابه الخصيصين ، وندمائه الملازمين ، وهو من الأفاضل المفننين كثيف ملىء علما وفهما ، وأعين عليه بالخلوات ففتح عليه بجملة من المصنّفات ، زادت على مائة مصنّف في أمور مهمّات.
__________________
(*) العبارة مطموسة بالأصل والقراءة ترجيحية.
ومنهم صاحب الذّكاء والفطنة ، والمكارم والحشمة ، القاضي زين الدين بن حلاوات صاحب التسهيل والمروءات ، كان تاجرا من أصحاب الثّروات ، فصحب الشيخ نجم الدين ، فتخرّج به سنين ، حتّى صار من فضلاء الموقعين ، زرعه الشيخ نجم الدين فقلعه وثبّته ، فانتزعه ، ودخل في النّواب ، وجعل بينه وبينهم سورا من الذّهب ، ليس له باب ، باطنه الغدر ، وظاهره العتاب ، فوفّق الله الشيخ إلى الصّواب ، وعجّل له الرّاحة في الدنيا والسلامة في المآب ، وجمع خاطره فأفاد المسلمين ونفع.
ومنهم علم الأجواد والأخيار ، وبقيّة السّلف الأبرار ، ومحلل المشكلات عند الاضرار ، الشيخ برهان الدين خطيب جامع الجوكندار ، من أصحابه وإخوانه ، وأصهاره ، وأنصاره ، وأعوانه محيي الليل بالقيام ، ومعفر الوجه في الظّلام ، كثير الاستغفار ، فتحققت أنّه من الأخيار ، وحضرته عند الموت فقال : رأيت الساعة منزلتي في الجنّة ، أنا رائح إلى رحمة العزيز الغفّار ، ثم تشهّد ، ومات من ساعته تغمّده الله برحمته.
ومنهم القاضي الفاضل الرئيس الكامل زين الدين عمر بن داود اليثني بديع الصّفات ، كثير الافادات ، متشابه كالأعلام ، وإفاداته كالغمام ، وكلماته كالحسام ، صحب الشيخ نجم الدين ، فبرع في أقرب حين ، ثمّ رحل وقد تمكّن من الفضيلة أيّ تمكين ، فوصل إلى الدّيار المصرية ، فأوى إلى الظّلال العليّة ، وخدم ابن فضل الله صاحب دواوين الانشاء بالممالك الإسلامية ، فجبره وأكرمه ورفعه وقدّمه ، وصار ممّن يشار إليه ويعوّل في المهمّات عليه ، ولكنّه كالمطلب يؤمل فيرقب ثمّ يكون كالدب لا يجلب ولا يركب ، وكل من أصحابه عليه يعتب ، إلّا أنّه عديم الأذى صبور على القذى.
ومن أخصّاء أصحابه وأعزّ أحبابه وأولى الناس به صاحب الفضائل المعروفة واللطائف الموصوفة ، الشيخ صلاح الدين ابن أيبك الصّفدي ،
شيخ الأدب في عصره ، وإمام البلاغة فى دهره وسلطان الشّعراء في زمانه ، وقدوة الإنشاء في أوانه ، تخرّج بالشيخ نجم الدين المشار إليه فكان يفتخر به ويثني عليه ، ولمّا رأى ندره ، أمره بالهجرة فهاجر إلى القاهرة ، وكان بها من العلماء نجوم زاهرة كأبي حيّان المغربي ، وابن سيّد الناس اليعمري ، وقاضي القضاة جلال الدين العجمي ، فأخذ عنهم ، واقتبس منهم ، ثمّ أقبل على التّصنيف ، وتدرّب في التّأليف ، ثمّ رغب في الشام ، فتحوّل إليه ، وأقام وتنقّل في الوظائف الكبار ، فعمل كتابة السّر بحلب ، ثمّ وكالة بيت المال المعمور بالشام ، فشاع ذكره وسار ، ثمّ جدّ في التّصنيف في الليل والنّهار ، ورحل إليه الناس ، وقصدوه من الأمصار ، فصنّف كتبا أغرب فيها وأبدع في معانيها ، فمنها «جنان الجناس» ومنها «كتاب نصرة المباير على المثل السّائر» ومنها «كتاب جلوة المحاضرة في خلوة المذاكرة» ومنها «كتاب المجاراة والمجاذاة» في مجلّدين ، ومنها «كتاب غيث الأدب» في أربعة مجلّدات ، ومنها كتاب «الكشف والتّنبيه على الوصف والتّشبيه» ، ومنها كتاب «الرّوض الباسم» ، ومنها كتاب «غوامض الصّحاح» ، ومنها «كتاب حلى النّواهد على ما في الصّحاح من الشّواهد» في خمسة مجلّدات ، ومنها : «كتاب نفوذ السّهم فيما وقع للجوهري من الوهم» في مجلّدين ، ومنها «كتاب نكت المعميان في نكت العميان» ، في مجلّدين ، ومنها «كتاب طرد السّبع عن سرد السّبع» ، في أربعة مجلّدات ، ومنها كتاب «زهر الخمائل في ذكر الأوائل» ، ومنها «كتاب توسيع التّوشيح» ومنها «كتاب التاريخ الكبير» في ستين مجلّدا ، و «التاريخ الصغير» في اثني عشر مجلّدا ، ومنها «كتاب التّذكرة» في سبعة وأربعين مجلّدا ومنها «كتاب المقترح في المصطلح» ، ومنها «كتاب حقيقة المجاز» ، وغير ذلك من المصنّفات التي يطول ذكرها.
والشيخ نجم الدين بن جماعة من التّلامذة والمحبّين.
ومنهم صاحب العلم والدين ، والتّوكّل واللطف المتين ، الخطيب
برهان الدين أخو الشيخ نجم الدين ، الفاضل النّحرير ، والفقيه الكبير ، تخرّج بأخيه الشيخ نجم الدين ، واكتسب من أبيه الشيخ كمال الدين ، ثمّ رحل إلى مصر ، فلقي أعيانا ، ثمّ إلى الشام فاشتغل بها زمانا ، وجوّد في القراءة وتنمّق في الكتابة حتّى صار له خط كالدّر الثّمين ولزم ابن البصبص سبع سنين ، وكان مع فضله الجسيم ألطف من النّسيم ، ما سبق بسلام قط ، ويمشي الحيط الحيط ، والشّط الشّط ، إن رأى صحبة جاء واقترب ، وإن رأى فتنة ذهب وهرب ، عاش بالكفاف والقناعة ، ولم يكشف لأحد قناعه ، في عزوجلالة ، وخرج من الدنيا لا عليه ولا له ، وللشيخ نجم الدين ما لا يحصى من المريدين كشيخنا الرّسّام ، وغيره من الأعلام السّادات الأماثل وصدور المحافل.
ومنهم الرئيس الأكبر ، والسّراج الأنور ، ذي الحظ الأوفر ، أحد علماء المسلمين القاضي جلال الدين النّهاوندي العجمي ، أدرك الأطواد ، وألحق بالآباء والأولاد ، صاحب كيس وظرف ، وتواضع ولطف ، اشتغل ببلاد العجم ، فلمّا نبل ونجم توجّه إلى الشام للاجتماع بالأعلام ، فوصف للملك الظّاهر لمّا فتح صفد ، ففوّض إليه القضاء ، ومنحه بالصفد ، فسار فيها أحسن السّير ، وعمّر أهلها بالجبر والخير ، حتّى أتاه اليقين ولحق برب العالمين.
وكان ولده قاضي القضاة شرف الدين ، قد اشتهر بين المتصرّفين ، فقام معه لأنّ هذين البيتين واحد عن يقين ، فسار على سير والده ، وكانت حركاته كحركات والده وأسعد ، فأقام دهرا طويلا ، ولم يدّخر كثيرا ، ولا قليلا ، فغمر رعيته بالإحسان ، حتّى أتاه الحدثان ، ثمّ ذهب وكأنّه ما كان.
ثمّ نشأ له ولدان : أحدهما الشيخ علاء الدين ناظر الحسبة الشريفة ، ووكالة بيت مال المسلمين ، وعمّر طويلا ، ولم يخلّف كثيرا ولا قليلا ، كان يؤثر الانقطاع ، وينفر عن الاجتماع ، ويرضى بالقليل ، ولا يظهر منه
إلا الجميل ، إن اضطر صبر ، وإن منح شكر ، ففاز بالرّاحة والسلامة وسلم من الحسرة والنّدامة.
والثاني : القاضي بدر الدين ، كان ذا أدب وحكمة ، وثروة ونعمة ، ورئاسة وحشمة ، ومات قبل أخيه ، فكل ما جمعه تصرّف فيه ، وكانت وفاته شهيدا بالطّاعون الكبير ، وانقرض هذا البيت الخطير ، رحمة الله عليهم أجمعين ، فلقد كانوا أهل مكارم ، وجود ورحمة في هذا الوجود.
ومنهم صاحب العلم المبين ، والورع والدين ، القاضي شرف الدين ، الحاكم بالنّاصرة ، ذو الفضائل المتكاثرة ، صحب الأكابر الأئمّة ، حتّى صار من علماء هذه الأمّة ، واجتهد في طلب الحال ، حتّى صار من أهل الثروة والمال ، ثمّ نشأ له أولاد رؤساء أجواد علماء أعلام.
ومنهم قاضي القضاة شمس الدين ، ذو الحشمة والدين ، صاحب الصّدق والمعروف والخير المألوف ، يقضي على القذا ، ويؤذى فيحتمل الأذى ، قام في قضاء القضاة بصفد دهرا طويلا ، فأفاض على الرّعيّة خيرا جزيلا ، وسار فيهم سيرة مرضيّة حتّى أتته المنيّة ، فوجد من جملة ما خلف من التّراث والحاضر من الميراث خمسة آلاف دينار مصرية ، ومن الدراهم عشرة آلاف بندقية ، إلى غير ذلك من الجاموس العديد ، والغنم المديد ، فظنّ ولده أنّ ذلك لا يفنى ولا يبيد ، فلم يلبث إلّا مدّة يسيرة ، ثمّ مات ، فظهرت عليه ديون كثيرة فأبيع جميع موجوده فلم يف بما عليه ، فيا تعب من لم يقنع بما رزقه الله ، وفوّض الأمر إليه.
ومنهم أخوه القاضي برهان الدين ، ذو الورع والدّين ، والسّكون واللطف والرحمة ، والعطف ، حسن الطريق لا يدخل فيما لا يليق ، تولّى الحكم قديما بعكّا ، والنّاصرة ، فكانت له السّيرة الحسنة الفاخرة ، ثمّ اختار الرّاحة والسلامة ، وخفّة الحساب يوم القيامة ، فجمع خاطره على الله وقنع بما عنده من فضل الله ، فلمّا مات أخوه اختاروه وعيّنوه ، فلم
يوافق وامتنع ، فعظم قدره وارتفع وكان ذلك من تمام سعادته ، وكمال سيادته ، فكأنّك بالدّنيا ولم تكن ، وبالآخرة ولم تزل ، وتولّى الخطابة بصفد ، فرأى ما اختصّ به هذا البلد من النّكد ، فرغب عن الخطابة رغبة فيما عند الله ، وآثرني بها ابتغاء لوجه الله ، رضي بالمقدور ، وقنع بالميسور ، وعلم أن الدنيا متاع الغرور ، أعانني الله على مكافأته ، وجمعني وإيّاه في جنّاته.
ومنهم الشيخ الجليل المنقطع للعبادة والتّحصيل ، الشيخ شهاب الدين أحمد بن خفاجا الفقيه الشّافعي من أئمّة الدين ، اشتغل بصفد ، ثمّ رحل في طلب العلم إلى دمشق ، فحصّل من العلوم الشّرعيّة جملا ، ثمّ عاد وأقام بقرية ابنيت ، عن النّاس معتزلا ، يجمع ويؤلّف ، ويفتي ويصنّف ، ويشتغل بمن جاءه للتعليم ، ويرشد من قصده للتّفهيم ، ويفعل كل ذلك تبرّعا واحتسابا ، ولا يطلب من الناس على ذلك جزاء ولا ثوابا ، بل هو منقطع إلى الله ، متوكّل على الله ، يزرع بنفسه لطلب الحلال ، فإذا حصل القوت ، واطمأنّت قلوب العيال ، تفرّغ لعبادة ربّه ، وتحصيل العلم وكتبه ، وكل من جاءه لاستفتاء واشتغال أضافه من ذلك الكسب الحلال ، ثمّ يشغل من اشتغل ، ويجيب من سأل ، فإذا فرغ أقبل على التّصنيف ، وانكبّ على التّأليف ، وكان لا يأكل إلّا من طعامه ، ولا يقبل شيئا مدّة أيامه ، وعمّر نحو السبعين ، وكان له مصنّفات كثيرة في علوم الدين ، شرح «كتاب التّنبيه» وسمّاه «بالمصباح» في نحو عشرة من المجلّدات ، وصنّف مختصرا في الفقه نحو مجلّدين ، جمع فيه مقاصد الرّوضة بأوجز العبارات ، وشرح «كتاب الأربعين النّواويّة» شرحا مطوّلا ، يحوي الفوائد السّنيّة ، وله غير ذلك من المصنّفات ، وكلّها بحمد الله نافعات ، ولمّا أوقفني على شرح التّنبيه سررت به ودعوت له ، وكنت آنذاك شابا صغير السّن فقلت : شعر :
نفدي بأنفسنا وبالأرواح |
|
من قد غدا سببا لنيل فلاح |
لم لا وأهل العلم تعلم أنّه |
|
شرح الصّدور بشرحه المصباح |
فسرّ ودعا لي ، وقال : عليك بملازمة الرّوضة للنّواوي ، فإنّي رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في منامي ، في شهر رمضان ، فقلت : يا رسول الله ما تقول في النّواوي؟ قال : نعم الرّجل النّواوي ، فقلت : صنّف كتابا وسمّاه الروضة فما تقول فيها؟ قال : هي الرّوضة كما سمّاها ، ثم وقف بعد ذلك على ما علقته من شرح المنهاج ، فسّر به ودعا له بالتّيسير والإعانة ، وحثّني على الاجتهاد فيه ، ولمّا مات كانت له الجنازة العظيمة ، لم يتخلّف عنها أحد من أعيان صفد : الأمراء ، والفقهاء ، والفقراء ، وتولّيت غسله وحمله وتزاحم الأمراء على حمل جنازته ، رجاء بركته ، وأنا وضعته في اللحد ، وكان هذا به آخر العهد ، وله تلامذة به انتفعوا ، وببركته ارتفعوا.
ومنهم الشيخ علي الشّوراني وقد تقدّم ذكره.
ومنهم الشيخ الصالح الشّفوق النّاصح العالم العامل الورع ، الزّاهد القانت العابد ، المعرض عن الفاني ، التّارك للأماني ، الفقيه شهاب الدين أحمد القاري ، لزمه دهرا ، فحصل له خيرا ، ثمّ انقطع واجتهد في تحصيل الزّاد للمعاد ، وإعرض عن الدنيا وأهلها ، وقنع بقوت من حلّها ، فهنّاه الله بما أعطاه ، ومنّ علينا بما آتاه.
ومنهم حسن المقاصد ، وكثير الفوائد الشيخ علاء الدين بن حامد ، السّيّد الجليل ، والمجتهد النّبيل العالم الفقيه ، والخيّر النّبيه ، قرأ عليه كتاب التّنبيه ، ثمّ بحثه وتفقه فيه ، وتفنّن في العلوم الشّرعية ، ثمّ برع في الفروع الفقهيّة وكتب بخطّه كثيرا ، واجتهد اجتهادا كثيرا ، اشتغل الله على كلّ حال ، فأذنت له في الفتوى من غير سؤال ، وهو باق في الاجتهاد ، ومستمرّ في الازدياد.
وممّن ورد على صفد ، وأقام فصار من أهل البلد : الإمام العلّامة والقدوة الفهّامة أحد الأئمّة الأعلام ، بقيّة السّلف الكرام ، ناشر العلم بهذا الإقليم ، وجابر الطّلبة بخلقه العظيم ، وداعيا ليلا ونهارا إلى الطّريق القويم ، المجتهد سرّا وجهرا في هداية الخلق إلى الصّراط المستقيم ، خلف السّلف الصالح علاء الدين علي بن محمد صالح ، شيخ الإسلام المعروف بالرّسّام ، كان إماما عظيما ، وسيدا حليما ، وخيّرا حكيما ، قد استغرق لأوقاته الصالحة كلّها في مساعدة الخلق في الأمور العظيمة وحلّها ، فإنّ لله عبادا طهّرهم من الأدناس ، وخلقهم لحوائج الناس ، تفزع الناس إليهم في أمورهم ، أولئك هم المؤمنون يوم القيامة ، أتيته لوداعه عند توجّهه إلى الحج فسألته الدعاء ، فقال لي : سألت شيخي ياقوت الاسكندري الدعاء عند وداعه ، فقال لي : سألت شيخي أبا العبّاس المرسي الدعاء عند وداعه ، فأخبرني أنّه لمّا اجتمع بأبي العبّاس الخضر بأرض برقة سألته الدعاء عند وداعه ، فقال لي : صحبك الله اللطيف الجميل ، وكان لك صاحبا في المقام والرّحيل ، قلت : في هذه الحكاية فوائد منها معرفة هذا الدعاء العظيم الموقع ، ومنها نقل العدل الضّابط ، عن العدل الضّابط وجود الخضر وحياته ، وحصول مشاهدته ، وكانت له طريقة تجمع بين الشّريعة والحقيقة ، كثير الخشوع ، غزير الدّموع ، إذا جاءه أحد من الطّالبين ، فكأنّما جاءه أمير المؤمنين ، جئت يوما لزيارته وقد جاؤوا ببغلته ، وهو متوجّه إلى دار العدل ، فإنّه من أهل العقد والحل ، فأمر محضر البغلة فرجع ، ثمّ دخل إلى بيته ولأثوابه نزع ، ثمّ حمل كتابا وبساطا ، وأظهر قوّة ونشاطا ، فقلت : والله لقد زاد الخجل ممّا حصل ، فقال : صحبتك يخشى فواتها ، ودار العدل كثير أوقاتها ، فأثابه الله الجنّة ، لقد حملني أعظم منة ، وكانت أوقاته معمورة ، وأعماله مبرورة ، إن صلّى فبالخشوع يطيل السّجود والرّكوع ، وإن ذكر فمن صميم القلب ، وإن آذاه أحد صبر عليه واعتذر إليه ، كأنّه صاحب الذّنب ، وله تلامذة وأصحاب حصل لهم به الخير ، وكتب له الثّواب.